مسجد “آيا صوفيا”.. اسقاطات في غير موضعها

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏

 

بقلم/ محمد أبو الغيط 

في روايته “الرجال والمشانق” يقدم الكاتب التركي عزيز نيسين سردا كابوسيا لأحداث سبتمبر ١٩٥٥، حين اندفعت حشود كاسحة من الأتراك إلى شوارع إسطنبول تحرق وتدمر كل ما هو يوناني بعد شائعة حول إلقاء يوناني قنبلة على المنزل الذي ولد فيه كمال أتاتورك.
تطور الوضع إلى استهداف كل ما هو غير تركي، كل الأرمن واليهود أيضا، كل المنازل والمتاجر والكنائس. وصل الأمر إلى مرحلة أن تتم تعرية الرجال للتأكد من كونهم أتراكا أم لا عبر الختان، ومن يظهر أنه غير مختون سيتم ختانه على الفور بالخنجر في الشارع! ثم تطور الوضع لاستهداف كل ما هو “ليس تركيا بما يكفي”، فتعرض نيسين نفسه للضرب وتدمير سيارته لمجرد أنه لا يرفع عليها العلم التركي.

في مرحلة لاحقة قام الجيش التركي عام ١٩٧٤ بغزو قبرص لمنع حكومتها العسكرية التي حاولت ضمها إلى اليونان، وأسفر هذا عن تقسيم الجزيرة إلى اليوم، ومنذ ذلك الوقت تعترف كافة الحكومات التركية منفردة بهذه الدولة، بينما يصنفها القانون الدولي والاتحاد الأوروبي أرضا محتلة.

هذا غيض من فيض حول التوتر التركي اليوناني بالعقود الأخيرة، فضلا عن تاريخ حروب يمتد لقرون ماضية، أحدثها حرب الاستقلال بقيادة اتاتورك، والتي شهدت ومازالت تشهد تبادل اتهامات جرائم الإبادة والتدمير بين الطرفين.

كل هذه الأحداث سابقة على وجود أردوغان أو تأسيس حزبه أصلا، لكنها مكون أساسي في الشخصية القومية التركية بمختلف أحزابها وأطرافها، وهي من أسباب المفارقة العجيبة في أن تندلع معركة عربية-عربية حول تحويل “آيا صوفيا” لمسجد، بشكل أشد ضراوة من أي خلاف تركي-تركي حول القرار.
وبينما احتفت صحف عربية برد الفعل اليوناني بالغ السخط، باعتبار اليونان تعتبر نفسها وريثة الإمبراطورية البيزنطية الفقيدة، فإن الأتراك بمجملهم لم يزدهم غضب اليونانيين إلا احتفالا.

ولعل مشهد المدعوين والحاضرين للصلاة الأولى يقدم نموذجا مختلفا تماما عن ثنائيات المخيلة العربية، فكان بمقدمة الحاضرين دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية المتحالف مع أردوغان، وكذلك حضر محرم إينجه المرشح الرئاسي السابق عن حزب الشعب الجمهوري، الحزب الذي يعد نفسه حارس الأتاتوركية، وهو من كانت تنعقد عليه أكبر الآمال سابقا في إسقاط أردوغان، وقد حصل بالفعل على نحو ١٥ مليون صوت أي نحو ثلث الأصوات.

أيضاً دُعيت ميرال أكشنار، رئيس “الحزب الجيد”، وهو حزب قومي معارض لأردوغان، وكانت بدورها مرشحة رئاسية ضده، لم تتمكن من الحضور باليوم الأول بسبب “كورونا”، لكنها ذهبت لاحقا وظهرت في مقاطع مصورة وهي تصلي هناك مرتدية الحجاب. لم نر هذه الصور بالطبع على نفس وسائل الإعلام العربية التي طالما احتفت بهجوم أكشنار اللاذع ضد أردوغان، وأسبغت عليها أوصاف “تاتشر تركيا” و”المرأة الحديدية”.

جوهر النظرة التركية التي تجمع أردوغان والقطاع الأعم من معارضيه بخلاف الخيالات العربية، هي أن هذا التحويل لمسجد لا يحيد عن نهج أتاتورك، فالقضية التي رفعت امام مجلس الدولة التركي قبل ٢٦ عاما، أي قبل وصول أردوغان نفسه للحكم أيضا، اعتمدت في مسوغاتها على نقاط عدة أبرزها الدفع بتزوير توقيع كمال أتاتورك على قرار تحويل المسجد إلى متحف بناء على أسباب مطولة.

يرى تيار قومي تركي واسع أن لحظة تحويل آيا صوفيا إلى متحف بقرار سياسي هي تنازل تركي لصالح الخصوم الأوروبيين. كان أتاتورك قد انتزع أفضل ما يمكن انتزاعه بعد حرب الاستقلال و عقد معاهدة “لوزان” التي تعد إنجازا عظيما أنقذ وجود تركيا ذاته، لكن اليوم يطمح الأتراك للمزيد.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن المقارنة بتاريخ القرون الوسطى وتحويل مساجد أسبانيا كنائس، أو تحويل كنيسة دمشق مسجدا وغيرها، كلها قياسات لحالة مختلفة. كان هذا نهج تلك العصور، وهي أن دار العبادة الرئيسية بالعاصمة هي مركز حكم أيضا ويحولها المنتصر لدينه كرمز الانتصار السياسي، لكن الفارق بالحالة التركية هو أن لحظة التحويل لمتحف كانت بالعصر الحديث لا القديم.
لقد حُولت مسجداً في ١٤٥٣، وهو تاريخ قريب من سقوط غرناطة في ١٤٩٢، وكان يُفترض ان كل هذا تاريخ مضى وله مقاييس عصره، أما الحدث غير المعتاد فكان هو التحويل متحفا في العصر الحديث ١٩٣٥، وفي سياق أحداث ما بعد الحرب العالمية الأولى التي هُزمت فيها تركيا، لذلك كان الحدث مصدر جدل وتوتر تركي لا يهدأ منذ ذلك الوقت.

وفي نفس السياق فإن مسألة اتكاء الإمام على السيف شملت مخاوف مبالغا فيها عربيا حول “صورة الإسلام أمام الغرب”. حرصت على متابعة صحف اليمين البريطاني والتي أبرزت أخبار احتجاج بابا الفاتيكان وسياسيين أوروبيين على الحدث، لكن لم أشهد أي تغطية خاصة لمسألة السيف تحديدا. ليس هذا مستغربا، فالعديد من الدول الأوروبية تشمل تقاليدها تقلد السيوف أو استخدامها في مراسم رسمية، مثل طقوس منح ملكة بريطانيا لقب “سير”، وعلاوة على ذلك فإن رمزية القتال مرتبطة بإشهار السيف لا بوضعه في غمده والاتكاء عليه.

لكن ذلك البعد القومي كان حاضراً طيلة الوقت فماذا استجد اليوم؟

ثمة صعود في الشعور القومي التركي، يتوازى مع استياء عام من رفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، ويدفع للمزيد من التشدد بالعديد من القضايا، ومنها مسألة ترسيم الحدود البحرية التي يرى الأتراك جميعاً أنها مسألة ظلم تاريخي تعرضت له بلدهم لصالح اليونان، ويتفق أردوغان ومعارضيه بكافة أطيافهم تماما على رفض الترسيم الحالي رغم أنه معترف به من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

ومن زاوية أخرى فإن حسابات الانتخابات الداخلية تهيمن على الجميع. اتخذ أردوغان قرار التحويل بعد حكم المحكمة، والذي لم يزد عن الحكم ببطلان القرار السابق إجرائيا، بعدما كان حتى عهد قريب هو نفسه من يعلن مرارا تحذيره من تحويل المتحف مسجدا لخطورة ذلك على وضع المساجد في أوروبا، وهو منطق سليم لرافضي القرار بوجه عام، والذي يدفع للمزيد من الشحن اليميني العالمي وما الهجوم الإرهابي على مسجد نيوزيلندا منا ببعيد.

لكن القضية تحولت ورقة انتخابية بوجه خصوم أردوغان الخارجين عن حزبه وهم بوزن احمد داوود أوغلو وعلي باباجان، والذي ينافسونه على نفس شريحة المصوتين المحافظين، وهو ما أدى لتغييره الدفة، وبالمقابل سارع المعارضون للإحتفاء لمنع فوزه بهذه الورقة منفردا.
على سبيل المثال سبق أن عايرت ميرال أكشنار أردوغان بعجزه عن إعادة آيا صوفيا مسجدا، لذلك سارعت بتهنئته بحماس، ولعل هذا سبب حرصها على الذهاب للصلاة هناك، للتأكيد أن تغيبها باليوم الأول كان رغما عن إرادتها.

لكن في عالم مواز ثمة من لم ير بكل هذا المشهد المركب إلا أن أردوغان الإسلامي الإخواني المتطرف يغتصب كنيسة، أو بالعكس ان أردوغان بطل الإسلام يزيل تراث أتاتورك. على سبيل المثال ما ذكره المذيع محمد ناصر أن القوميين في تركيا عارضوا القرار لأنهم يكرهون الإسلام كما يكرهه القوميون العرب، وهو تدليس عمدي لأنه يعيش في تركيا وبالتالي يعرف يقينا مواقف الأحزاب القومية التركية التي أيدت القرار!

وبالمجمل فإن مفاهيم “إسلامي”، “علماني”، “قومي” بالسياسة العربية مختلفة جذريا في تعريفاتها وممارساتها عن نفس المفاهيم في السياسة التركية، وبالمجمل يتفق كافة أطياف السياسة التركية على نظام حكم علماني، وعلى إعلاء المشروع القومي التركي.

تاريخيا تم دمج الإسلام في تعريف القومية التركية لميلادها، وحدث مثل ذلك لشعوب أخرى كالبوشناق في البوسنة والهرسك. في زيارة للبوسنة التقيت بوسنيين لا يعرفون حرفاً من العقائد والشعائر الإسلامية، يعيشون حياة غربية كاملة، لكنهم بكل حماس يعرفون أنفسهم “مسلمين”. هذا تعريف لقوميتهم ضد الصرب الذين هم مسيحيون أرثوذوكس بالتعريف، والكروات المسيحيون الكاثوليك بالتعريف. هذا السياق غريب تماما على المخيلة العربية التي تتحول فيها القومية والإسلامية ساحة صراع. لا يفهم الإسلاميون والعلمانيون العرب مثلا كيف ينظر قوميون أتراك بفخر لتراث الخلافة العثمانية بوصفها “انتصارات الأتراك” لا انتصارات المسلمين. وبنفس السياق يرى قطاع واسع من الأتراك الإجراءات الأخيرة كتطوير لإرث أتاتورك لا انقلاب عليه. حرص أردوغان بعد أيام من قرار آيا صوفيا على الذهاب لزيارة قبر أتاتورك، وكتب له بدفتر الزيارات رسالة بالغة الاحترام يقول له فيها “إننا مستمرون في العمل للوصول إلى أهداف تركيا التي أسستموها وأوكلتموها لنا”.

لا ينفي ذلك السرد قط حق أي طرف في تبني رأي يرفض القرار أو ينتقد أبعاداً فيه، كما أنه من غير المنطقي المطالبات من البعض بألا يتحدث عربي عن الشأن التركي بالمجمل، بالعكس التفاعل مع الأحداث العالمية سلوك طبيعي جدا، وبالعالم كله على سبيل المثال متابعة للانتخابات الأمريكية وتعاطف مع أحد أطرافها.
وللحالة التركية تحديداً أبعاد متداخلة عديدة مع العالم العربي، وبالواقعة الأخيرة لا يمكن على سبيل المثال إغفال تعمد الاستثمار الشعبوي لصالح المشروع السياسي التركي بمنطقتنا، في اختلاف خطاب صفحة أردوغان الرسمية حول القرار حسب اللغة، فبالعربية يقول أن إحياء آيا صوفيا هو “بشارة لعودة الحرية إلى المسجد الأقصى” وبداية جديدة للمسلمين في العالم، بينما بالإنجليزية يتحدث سياسيا عن الحقوق السيادية التركية، ويؤكد بلهجة منفتحة أن آيا صوفيا ستظل تراثا مشتركا للبشرية، وأن أبوابها ستظل مفتوحة للجميع، للأتراك والأجانب، وللمسلمين وغير المسلمين!

من حق الجميع النقاش اتفاقا أو اختلافا، لكن المهم هنا هو عدم دس معلومات بحت كاذبة، أو القفز لاستخدام الشحن الطائفي والشعبوي سلاحاً سهلاً ضد الخصوم. مرآة التطرف الأيدولجي عمياء لكنها ليست خرساء للأسف.

المصدر/ صفحته بالفيس بوك

التعاليق: 0

لن يتم نشر بريدك الالكتروني, الحقول المشار اليها بـ * مطلوبة.

WhatsApp chat