د. تامر المغازي يكتب: السلطان المظلوم ورحله الصعود (2)

عبد الحميد الثاني و السنوات المُشكِّلة.. رحلة الأمير الشاب قبل الصعود إلى العرش في قصر جراغان الفخم، حيث يهمس البوسفور بحكايات الماضي، يجلس أمير شاب في عزلة نسبية، يعد نفسه لمصير لم يكن يعلم أنه ينتظره.

إنه الأمير عبد الحميد بن عبد المجيد، ذلك الشاب الذي سيطبع اسمه على واحدة من أكثر فترات التاريخ العثماني إثارة للجدل. ولكن من كان عبد الحميد قبل أن يصبح “السلطان المظلوم” أو “الخليفة العظيم”؟

هذه قصة السنوات التكوينية التي سبقت حكمه، لم يكن عبد الحميد الأمير المفضل أو الأكثر بروزاً بين إخوته.
بدلاً من الانغماس في حياة الترف، فضل العزلة والدراسة، كانت هذه الفترة حاسمة في تشكيل عالمه الداخلي.

عشرينياته و ورشة التكوين الفكري والسياسي

مع بلوغه العشرين من عمره، كان عبد الحميد أميراً ناضجاً يتابع بدقة الأحداث الجسام التي تهز أركان الدولة.

في هذه السنوات، شهدت الدولة العثمانية سلسلة من الأزمات و تدخل القوى الأوروبية، وتمردات في البلقان، وتردي الأوضاع المالية، ووفاة عمه السلطان عبد العزيز في ظروف غامضة، ثم خلع ابن عمه السلطان مراد الخامس بعد ثلاثة أشهر فقط بسبب مرضه. كان عبد الحميد مراقباً حاداً لكل هذه التطورات. لقد أدرك من خلال قراءاته الواسعة ومشاهداته أن أساليب الحكم التقليدية لم تعد مجدية.

اهتم بشكل خاص بدراسة اللغات (فأتقان الفارسية والعربية بجانب التركية)، والأدب، والتاريخ، والسياسة. كما أبدى اهتماماً غير مسبوق بين أقرانه بالشؤون التقنية الحديثة، مثل التلغراف والسكك الحديدية، مما يشير إلى عقلية عملية تبحث عن حلول للنهوض بالدولة.

شاهداً على “التنظيمات”: بين الحداثة والانهيار

عاش عبد الحميد شبابه في ذروة فترة “التنظيمات الخيرية”، وهي سلسلة من الإصلاحات التي هدفت إلى تحديث الدولة. كان شاهداً على إعلان الدستور الأول (قانون الأساسي) في عام 1876، في عهد الصدر الأعظم مدحت باشا.

لاحظ الأمير الشاب بحنكة السياسي المتمرّس الضغوط الخارجية التي فرضت هذه الإصلاحات، والانقسامات الداخلية التي أحدثتها بين دعاة التحديث على النمط الأوروبي والمحافظين الرافضين له.

هذه التجربة عمقت لديه قناعةً مفادها أن أي إصلاح يجب أن يأتي من الداخل، وبحكمة وبطء، للحفاظ على تماسك الدولة المترامية الأطراف، وليس استجابة لضغوط خارجية قد تخفي أجندات استعمارية.

وكان الرجل المناسب في الوقت الصعب بحلول عام 1876، كانت الدولة العثمانية على شفا الانهيار. الإفلاس، والحروب مع روسيا، والاضطرابات الداخلية، كلها عوامل جعلت العائلة الحاكمة وكبار رجال الدولة يبحثون عن شخصية قادرة على حمل الأمانة الثقيلة.

لم يكن عبد الحميد هو الخيار الأول، ولكن صفاته التي تشكلت خلال سنوات صباه وشبابه هي التي جعلته المرشح الأمثل: حكمته، تحفظه، معرفته العميقة بأمراض الدولة، وإيمانه القوي بضرورة الحفاظ على الخلافة الإسلامية كرابطة جامعة.

ومن هنا بدأ الاستعداد لمصير مجهول

في 31 أغسطس 1876، وقبل أيام من تتويجه، كان الأمير عبد الحميد البالغ من العمر 34 عاماً يجلس في قصره.

كان يعلم أن العرش ليس كرسياً من ذهب، بل صليباً من نار. السنوات الأربع عشرة الماضية من عمره (من العشرين إلى الرابعة والثلاثين) كانت بمثابة ورشة عمل مستمرة أعدته لهذه اللحظة المصيرية.

لقد دخل التاريخ من بابه الواسع، حاملاً معه تركة ماضٍ مضطرب ورؤية مستقبل أراد له أن يكون أكثر أمناً واستقراراً للدولة التي ورثها وهي على حافة الهاوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى