د. تامر المغازي يكتب: الدولة العثمانية 600 عام من البناء الحضاري وصناعة التاريخ

من الخيمة إلى القارة من قلب آسيا الصغرى، حيث كانت إمارة صغيرة على الحدود البيزنطية، انطلقت شرارة واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ. لم تكن مجرد دولة عسكرية توسعية، بل كانت حاضنة للثقافات، وصانعة للسلام، وجسراً بين الشرق والغرب لأكثر من ستة قرون.

هذا هي قصة الدولة العثمانية، التي حكمت بقوة السيف مرّة، وبقوة القانون والتنظيم مرّاتٍ أكثر. وبدأت النشأة.. الحلم الذي تحول إلى إمبراطورية (1299 – 1453)

تأسست الدولة على يد عثمان الأول، الذي أخذت الدولة اسمه، متبنياً رؤية استثنائية تتمثل في “الجهاد” كقوة دافعة للتوسع. لكن العظمة الحقيقية بدأت مع التأسيس الإداري والتنظيمي.

لم يكن الأبطال العسكريون وحدهم من يصنعون المجد، بل كان التنظيم الداخلي هو سر القوة.

بلغت الذروة المبكرة مع السلطان محمد الفاتح، الذي حقق الحلم المستحيل فقد فتح القسطنطينية عام 1453.

لم يكن هذا الانتصار مجرد غزو عسكري، بل كان حدثاً تاريخياً غيّر خريطة العالم.

بذكاء تام، حوّل الفاتح المدينة – التي كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية – إلى عاصمة للإمبراطورية العثمانية تحت اسم إسطنبول، محافظاً على كنائسها ومندمجاً مع سكانها، في نموذج رائع للتسامح وإدارة التنوع.

وبدأ العصر الذهبي.. ذروة المجد والتنظيم (1453 – 1566)

هنا، بلغت الدولة أوج عظمتها تحت حكم سلاطين أسطوريين مثل سليم الأول وابنه سليمان القانوني.

فقد قام سليم الأول بضمّ مصر والحجاز والشام، وأصبح خادم الحرمين الشريفين، محولاً الدولة إلى قوة إسلامية عظمى وحامية للعالم الإسلامي.

ومن بعده ابنه سليمان القانوني الذي لم يكن مجرد قائد عسكري هزم التحالف الأوروبي في موهاج، بل كان مشرّعاً عظيماً.

وضع “قانون نامه” الذي نظم الحياة في الدولة لقرون، مما أكسبه لقب “القانوني”.

في عهده، أصبحت الدولة أقوى قوة في العالم، تتحكم في ثلاث قارات، وكانت إسطنبول مركزاً للعلماء والفنانين والمهندسين مثل معمار سنان، الذي ترك تحفه المعمارية من جامع السليمانية إلى جامع السليمية.

أسس العظمة.. أكثر من مجرد غزوات

لم تكن العظمة العثمانية في حجمها فقط، بل في نظامها الفريد:

ومنها نظام “الميلت” (Millet System) وهو أحد أذكى أنظمة الحكم في التاريخ.

سمح هذا النظام للأقليات الدينية (المسيحيين واليهود) بحكم أنفسهم ذاتياً تحت قيادتهم الدينية.

هذا النظام هو سرّ التعايش السلمي بين ديانات وثقافات متعددة لقرون.

وقوات الانكشارية (يني تشري) اليتي كانتفي بدايتها، نخبة الجيش العثماني، تتكون من جنود مدربين تدريباً عالياً ومخلصين للدولة فقط.

كانوا أحد أسباب التفوق العسكري المطلق.

والإدارة المركزية وهو نظام حكم محكم، مع ديوان يرأسه الصدر الأعظم، وولاة للأقاليم، وقضاء مستقل.

و الرعاية الحضارية فقد شهدت الدولة نهضة في العمارة، والفنون، والأدب، والموسيقى، والخط.

كانت إسطنبول تحفة معمارية تجذب أنظار العالم.

أفول النجم.. رحلة الطويق نحو الغروب (1566 – 1922)

لا تدوم الأمجاد إلى الأبد.

بعد سليمان القانوني، بدأت عوامل الضعف تظهر منها ترهل الإدارة وانتشار الفساد وشراء المناصب.

وكذلك تدهور الاقتصاد و اكتشاف الأوروبيين لطرق تجارية جديدة بعيدة عن مناطق سيطرة العثمانيين.

وتآكل مؤسسة الانكشارية فقد تحولت من قوة ضاربة إلى جماعة ضغط تعيق أي إصلاح.

وصعود القوى الأوروبية فقد بدأت أوروبا عصر النهضة والثورة الصناعية، بينما بقيت الدولة العثمانية ترزح تحت ثقل التقاليد.

وكانت هناك محاولات للإصلاح مثل “التنظيمات” في القرن 19 وعهد “المشروطية” (الدستور) لم تكن كافية لإنقاذ العملاق المريض.

دخلت الدولة في حروب مهلكة، وفقدت معظم أراضيها، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى لتكون الضربة القاضية.

أدت هزيمتها في الحرب إلى تقسيم أراضيها، وقيام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء السلطنة عام 1922 ثم الخلافة عام 1924، معلناً قيام الجمهورية التركية الحديثة.

سقطت الدولة العثمانية، لكن إرثها ما زال حياً إرث لا يمحى .

من آثارها المعمارية التي تزين ثلاث قارات، إلى المطبخ، والموسيقى، والتقاليد، والكلمات العربية ذات الأصول التركية.

كانت آخر خلافة إسلامية جامعة، وحافظت على العالم الإسلامي قروناً طويلة.

تذكرنا هذه الإمبراطورية بأن الدول تبني مجدها ليس فقط بالحديد والنار، بل بالعلم، والتنظيم، والتسامح، والقانون.

وقصة انهيارها تظل درساً خالداً في التاريخ فأن الجمود هو عدول التقدم، وأن الأمم التي تتوقف عن التجديد تدفن نفسها بنفسها.

دراسة التاريخ هذه ليست حنيناً إلى الماضي، بل هي استخلاص للعبر لبناء المستقبل.

الدولة العثمانية قدمت لنا نموذجاً للإمبراطورية التي صنعت حضارة، وتذكيراً بأن كل نجم، مهما علا، له وقت للغروب.

Bir yanıt yazın

E-posta adresiniz yayınlanmayacak. Gerekli alanlar * ile işaretlenmişlerdir

Başa dön tuşu