د.تامر المغازي يكتب: السلطان المظلوم و السنوات العشر المصيرية (3)

في صيف عام ١٨٧٦، ارتقى السلطان عبد الحميد الثاني عرش الدولة العثمانية التي كانت على شفا الهاوية فقد أصبحت الإمبراطورية منهارة. ولم يكن مجرد سلطان جديد، بل كان رجلاً يقف على بركان من الأزمات الداخلية والخارجية.

فقد كانت الخزينة مفلسة، والتمردات تتأجج في البلقان، والقوى الأوروبية تتربص بالإمبراطورية العجوز.

وبدأ السلطان عبدالحميد رحله انقاذ مستحيل ففي رحلة العشر سنوات الأولى من حكمه (١٨٧٦-١٨٨٦)، وهي الفترة التي كشفت عن ملامح حاكم استثنائي، حاول يائساً إصلاح القطار الذي خرج عن السكة، وسط عواصف لم تهدأ.

وكانت البداية المليئة بالأمل هي دستور وبرلمان بدأ عبد الحميد حكمه بخطوة جريئة أذهلت الجميع.

و تحت ضغط حركة “الاتحاد العثماني” الإصلاحية والمثقفين الليبراليين مثل مدحت باشا، أقرَّ في ٢٣ ديسمبر ١٨٧٦ الدستور العثماني الأول (القانون الأساسي).

كان هذا الحدث تاريخياً، إذ أعلن عن تحول الإمبراطورية إلى نظام ملكي دستوري، وأنشأ أول برلمان (مجلس المبعوثان).

وكان الهدف واضحاً وهو إظهار أن الدولة العثمانية قادرة على إصلاح نفسها، وبالتالي حرمان الدول الأوروبية من ذريعة “حماية الأقليات” للتدخل في شؤونها.

وقد افتتح البرلمان في ١٩ مارس ١٨٧٧ وسط آمال عريضة بإطلاق عصر جديد من المشاركة والإصلاح.

ولكن تأتي العاصفة الأولى وهي الحرب الروسية العثمانية (١٨٧٧-١٨٧٨) التي لم تمنحه الأقدار وقتاً لترسيخ النظام الجديد.

ففي أبريل ١٨٧٧، شنَّت الإمبراطورية الروسية الحرب على الدولة العثمانية، مدعيةً حماية المسيحيين في البلقان.

هذه الحرب، التي عُرفت في تركيا بـ “حرب ٩٣” (نسبة إلى سنة ١٢٩٣ هجرية)، كانت التحدي الأكبر في السنوات الأولى.

ولكن حدثت الكارثة العسكرية التي كشفتها الحرب عن فشل ذريع للجيش العثماني، رغم المقاومة البطولية في بعض الجبهات مثل حصار بليفنا بقيادة عثمان باشا.

فقد تقدمت الجيوش الروسية بسرعة، ووصلت إلى مشارف العاصمة إسطنبول، مهددة باحتلالها.

وكان البرلمان هو ساحة صراع بدلاً من الحل فقد تحول البرلمان إلى ساحة لتبادل الاتهامات بين ممثلي القوميات المختلفة (خاصة الأتراك والأرمن) حول أسباب الهزيمة، مما أقنع عبد الحميد بأن النظام البرلماني في ظل هذه الظروف يزيد الدولة ضعفاً ولا يوحدها.

فقام بحل البرلمان في فبراير ١٨٧٨ وتعليق العمل بالدستور، معلناً حكماً فردياً مباشراً وكان قرارا حكيما لانقاذ الدولة .

كان هذا القرار نقطة تحول أساسية في حكمه، حيث آمن أن الإنقاذ لا يكون إلا بيد حازمة مركزية.

كانت الهزيمة في الحرب كارثية، وتم خسارة أراضي شاسعة ولكن نتائجها في مؤتمر برلين في صيف ١٨٧٨ كانت أكثر إيلاماً.

وجد عبد الحميد نفسه مضطراً للتوقيع على معاهدة أنهت الحرب، لكنها قطعت أوصال الإمبراطورية .

ومنها الاعتراف باستقلال رومانيا وصربيا والجبل الأسود.

ومنح بلغاريا حكماً ذاتياً واسعاً تحت الحكم العثماني الاسمي.

وكذلك تنازل عن قبرص لبريطانيا كقاعدة لحماية مصالحها.

و تنازل عن أجزاء كبيرة من أراضي الدولة لروسيا.

فقد كان المؤتمر صفعة قاسية، أكدت لعبد الحميد أن أوروبا ليست صديقة، وأن بقاء الدولة هو معركته الوحيدة.

وكان هناك المواجهات الداخليةو إخماد التمردات وإدارة الأزمات فقد واجه السلطان تحديات داخلية لا تقل خطورة.

وبدأت بالتمرد في اليونان و استمرت الاضطرابات في منطقة ثيساليا، والتي انتهت لاحقاً بضرورة التنازل عنها لليونان.

وكذلك الأزمة المالية التي جعلت الخزينة منهكة بسبب تكاليف الحرب والتعويضات.

حاول عبد الحميد إدارة الأزمة عبر تفاوض مضنٍ مع الدائنين الأوروبيين، مما أدى في النهاية إلى إعلان إفلاس الدولة وفرض سيطرة أجنبية أكبر على مواردها المالية عبر “إدارة الديون العمومية العثمانية”.

وقرر السلطان عبدالحميد بدأ استراتيجية المواجهة و سياسة جديدة للبقاء رداً على هذه العواصف، بدأ عبد الحميد في صياغة استراتيجيته الشهيرة التي ستميز بقية حكمه .

ومنها الوحدة الإسلامية فقد أدرك أن القوميات المسيحية في أوروبا قد انفصلت، فاتجه إلى توحيد الرابطة الإسلامية داخل الدولة (العرب، الأكراد، الألبان) كقاعدة جديدة للولاء للدولة.

عزز من مكانة الخلافة، واهتم بتجديد وإدارة خط الحجاز.

وكذلك مركزية الحكم وتعزيز السلطة في قصره (يلدز)، واعتمد على شبكة مخبرين واسعة لمراقبة أي تدخلات خارجيه لاحداث تخريبات محتملة او تجنيد جواسيس ، مما أكسبه سمعة “السلطان الأحمر” لدى خصومه وما كان كذلك ابدا .

و بدأ السلطان الإصلاحات الانتقائية و واصل سياسة التحديث ولكن تحت سيطرته المباشرة.

فقد وسع شبكة السكك الحديدية (مثل خط الحجاز)، وطور التلغراف، وأنشأ المدارس الحديثة (العسكرية والمدنية) لتخريج كوادر موالية له وتحب الدوله وتدافع عنه .

بعد عقد من الحكم، كان عبد الحميد الثاني قد نجح في إنقاذ العرش من السقوط الفوري، لكن ثمن هذا الإنقاذ كان باهظاً.

فقد تحول من سلطان دستوري مفعم بالأمل إلى حاكم مطلق، يحكم إمبراطورية مُقلمة الأظافر، محاطاً بأعداء من الداخل والخارج.

السنوات العشر الأولى لم تكن مجرد أحداث، بل كانت مختبراً قاسياً شكّل شخصية السلطان “العظيم”، الذي قرر أن يحكم بمفرده، لانه كان الحل و السبيل الوحيد لإنقاذ آخر إمبراطورية إسلامية من الانهيار التام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى