
د.تامر المغازي يكتب: السلطان المظلوم والعقد الحميدي الأوسط والإصلاح الخفي 4
بعد عشر سنوات على توليه العرش، دخل السلطان عبد الحميد الثاني عقداً حاسماً في حكمه (1886-1896)، يمكن وصفه بأنه “عقد الحديد والنار”.
إذا كانت السنوات العشر الأولى قد شهدت هزائم كبرى مثل حرب 1877-1878 وفقدان مساحات شاسعة، فإن هذه الفترة تميزت بمحاولة يائسة لإنقاذ ما تبقى من “الرجل المريض” عبر سياسة مركزية صارمة في الداخل، ودبلوماسية مرنة ولكن حذرة في الخارج، وإصلاحات جوهرية لكنها غالباً ما أخفتها صورة المستبد.
السياسة الداخلية و قبضة من حديد وصراع مع المعارضة
عمل السلطان عبد الحميد على تركيز كل السلطات في يديه في قصر يلدز ( المركزية )، متجاوزاً الباب العالي (الحكومة) ومؤسسة الصدر الأعظم.
أنشأ شبكة معقدة من الجواسيس والعملاء الذين كانوا يتقاضون رواتبهم مباشرة من البلاط، مما جعل جواً من الشك والرياسة يخيم على إسطنبول والولايات.
وبدأ بالإصلاحات الإدارية والتعليمية على عكس الصورة النمطية، شهدت هذه الفترة إصلاحات مهمة .
مثل التعليم فقد تم توسيع نظام المدارس الابتدائية والثانوية (الرشدية) والعسكرية.
وقد أنشئت جامعة إسطنبول (دار الفنون) عام 1900، ولكن تم افتتاح كلياتها في هذه الفترة.
فقدقفز التعليم قفزة نوعية في عدد المدارس .
المدارس الابتدائية (مكاتب) ارتفع عددها من حوالي ٢٥٠ مدرسة في بداية عهده إلى أكثر من ٤٥٠٠ مدرسة بحلول منتصف التسعينيات، معظمها بُني في هذه الفترة.
و المدارس الثانوية (الرشديات): قفز عددها من ٥٠ إلى أكثر من ٥٠٠ رشدية في أنحاء الولايات العثمانية.
و المدارس العسكرية تم توسيع نطاقها وزيادة عدد طلابها بشكل ملحوظ، حيث أصبحت المدرسة الإعدادية في كل ولاية تغذي المدارس العليا في إسطنبول.
وكذلك جامعة دار الفنون (إسطنبول) على الرغم من افتتاحها الرسمي في ١٩٠٠، فإن الأعمال التحضيرية وافتتاح كلياتها (مثل الحقوق والعلوم) بدأ بشكل فعال في أوائل التسعينيات، بهدف إنشاء نخبة موالية للدولة.
كان الهدف خلق جيل جديد من الموظفين الموالين للدولة.
وتم تطوير نظام السكك الحديدية فقد كان مشروع سكة حديد الحجاز (الذي أعلن عنه لاحقاً) حلماً يتراوح في هذه الفترة، لكن الخطوط الأخرى تم توسيعها، خاصة خط إسطنبول-أنقرة، مما عزز السيطرة المركزية على الأناضول.
فقد كانت السكك الحديدية شرايين السيطرة والاقتصاد
ومنها خط إسطنبول-أنقرة تم الانتهاء من هذا الخط الحيوي بالكامل في ٣١ ديسمبر ١٨٩٢، بطول إجمالي بلغ ٥٧٦ كيلومتراً.
كان هذا الإنجاز الهندسي بمثابة شريان حيوي ربط العاصمة بقلب الأناضول، مما عزز السيطرة الإدارية وشجع على حركة التجارة.
وكذلك خط حلب-دمشق-المزيريب الذي تم توسيعه وربطه، ليصل طوله الإجمالي إلى حوالي ٤٨٦ كيلومتراً، مما عزز النفوذ في بلاد الشام.
وتم الإعداد لمشروع القرن وهو سكة حديد الحجاز كانت هذه الفترة هي مرحلة التخطيط والتمويل المكثف لهذا المشروع العملاق، الذي بدأ البناء الفعلي له في عام ١٩٠٠ وتمويله بالكامل من تبرعات المسلمين حول العالم، متجاوزاً سيطرة الأوروبيين على التمويل.
و تحت إشراف الدائنين الأوروبيين (إدارة الديون العثمانية العامة)، استطاعت الدولة تحقيق فائض في الميزانية لأول مرة منذ سنوات، مما أعاد بعض الاستقرار المالي لكن على حساب الاستقلال الاقتصادي.
ولكن مواجهة المعارضة “جمعية الاتحاد والترقي” بدأت في عام 1889، وفي خضم هذه الأجواء السرية، تشكلت النواة الأولى لجمعية “الاتحاد والترقي” السرية في المدرسة الطبية العسكرية في إسطنبول.
كانت تهدف إلى إعادة العمل بالدستور (الذي عطله السلطان عبد الحميد في 1878) ومحاربة السلطان لحساب الغرب.
وبعد فشلهم في هذا دفع الكثيرين إلى الفرار إلى الخارج، خاصة إلى باريس وسلانيك وبلاد غربيه اخري كانت تمولهم لتدمير الدولة العظيمة .
عزز علاقته مع المسلمين في الهند وجاوة (إندونيسيا) وإفريقيا، وأرسل مبعوثين ودعاة، مما أقلق بريطانيا وفرنسا في مستعمراتهم. وهناك الموقف من الأزمات الإقليمية.
مصر والسودان كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني منذ 1882.
شهدت هذه الفترة صراع المهدية في السودان.
حاول عبد الحميد استخدام نفوذه الديني لكنه كان مقيداً واقعياً بالوجود البريطاني. والمنافسة الألمانية بدأت العلاقات العثمانية-الألمانية في التبلور بشكل واضح.
في عام 1889، قام القيصر فيلهلم الثاني بأول زيارة له إلى إسطنبول، وهي زيارة ذات دلالة كبيرة.
رأى عبد الحميد في ألمانيا قوة موازنة لبريطانيا وفرنسا وروسيا، بينما رأت ألمانيا في الدولة العثمانية سوقاً ومجال نفوذ.
ولا ننسي أزمة الأرمن (1894-1896) كانت هذه هي الأزمة الأكثر دموية في هذا العقد.
مع تزايد المطالب القومية للأرمن وتشجيع بعض القوى الأوروبية (خاصة روسيا وبريطانيا) لهم، تشكلت عصابات مسلحة أرمنية.
ردت الدولة بقسوة بالغة، ضد الأرمن في مناطق مثل “ساسون” و”الولايات الست”. بلغت ذروتها في “عصيان الأستانة” عام 1896، عندما اقتحم أرمن البنك العثماني احتجاجاً، فاندلعت أعمال عنف جماعية راح ضحيتها الآلاف.
استمر بناء المساجد والمباني العامة على الطراز “النيو-عثماني” الذي يجمع بين العناصر الإسلامية والكلاسيكية الجديدة، كتعبير عن هوية الدولة الجديدة.
في إسطنبول، تم تحديث البنية التحتية بشكل ملحوظ، مع إنارة الشوارع بالغاز ومد خطوط الترامواي والهاتف، مما أعطى العاصمة مظهراً راقيا تفوق علي بلاد الغرب .
العقد من 1886 إلى 1896 كان بمثابة نجاح السلطان عبد الحميد في تحقيق استقرار ومنع انهيار الدولة، وحافظ على تماسكها في مواجهة أطماع الخارج.
إصلاحاته الإدارية والتعليمية كانت حقيقية و خدمت الدوله في الاستقرار .




