شاكر السامر يكتب: رسالة شوق فنية جمالية للمحبة والسلام..قراءة في معرض (حنين) للفنان د.عمر النمر


من أجمل ما يحمله الإنسان في حياته للمجتمع هي رسالة تسر الإنسانية في نطاق الخير والسلام والمحبة ‘ وستكون الأجمل لو كانت ذات طابع فني جمالي تسعد النفوس وتسر القلوب وتنير البصيرة بما يعزز الطاقة الإيجابية في ذات المتلقي بما تفيض رسالة الفنان من نفحات روحية عابقة بالحنين لما هو اجمل وارقى .
ولنا اليوم في رسالة الفنان السوري “د.عمر النمر” انموذجاً حياً وجميلاً في هذا النمط التعبيري الأخّاذ الذي التقطناه في خضم سعينا الدائم لتكوين جملة من الصداقات المخلصة في مهجرنا في”اسطنبول” العريقة التي احتضنت المئات من التشكيليين والأدباء والأكاديميين والمثقفين العرب الذين هُجّروا من بلدان مختلفة وبيئات مختلفة فكل واحد منهم يحمل في جعبته مواهب وذكريات ومشاعر وهواجس وكل ارث الثقافي.


وما دمنا هنا بصدد الكتابة عن التشكيلي السوري “د٠ عمر النمر” الذي حفّزنا (معرضه الشخصي الثالث “حنين” القائم في صالة وقف بيرلك / الفاتح ـ شمبرلي طاش / اسطنبول على إستحضار الخلفية البيئية والثقافية الأكاديمية للفنان النمر حيث عاش جل عمره في بلده الشام يرتع بين حاراتها وازقتها وينهل من مدارسها وثقافتها ويتدرج في مراتبها العلمية وفيها صقل موهبته الفنية حيث إنتسب الى مراكز الفنون التشكيلية وتتلمذ على يد كبار الفنانين الى أن اصبح من الفنانين النشطاء في إتحاد الفنون التشكيلية وشارك في 43 معرضاً جماعياً في سوريا من 1987 -2012 كما نظّم 13 معرضاً فنياً في دمشق وريفها. وأقام معرضه الفردي الأول عام 2004 ومعرضه الفردي الثاني عام 2010 ثم هاجر الى تركيا أثناء الحرب في سورية وما أن وطئت قدماه ارض إسطنبول حتى بدأ يبحث عن البيئة الفنية التي يشتاقها وجمع حوله العديد من الفنانين السوريين والعراقيين والأتراك والمصريين والجزائريين وأسس جمعية شام للفنون التشكيلية التي كانت واحة للفن العربي في إسطنبول ونفذت اكثر من ثلاثين معرضاً وورشة عمل فنية منذ 2016- 2024 وهنا آن الأوان ليحقق حلمه القديم في دمج هوايته في الفن التشكيلي باختصاصه العلمي كمختص نفسي فتابع دراسته وتدريباته في الدعم النفسي عن طريق الفنون وتخرج في جامعة عين شمس بتخصص العلاج بالفن ودرّب العديد من المختصين النفسيين والاجتماعيين في إسطنبول وسوريا على الدعم النفسي الاجتماعي عن طريق الفنون.
كل هذه المسيرة الفنية العلمية العملية الطويلة أهلته ليكون أحد الفنانين المميزين في إنجاز لوحات ذات طابع جمالي خاص من حيث تأثيرها النفسي الإيجابي على المتلقي ؛ وقد لمسنا ذلك في لوحاته العشرين في هذا المعرض حيث الحنين يشع من الوانه وشخوصه وتشكيلاته بسردية فنية مزدانة بتلوينات جميلة تؤشر لنا نمطية اشتغاله على عدة مستويات من أغلب لوحاته حول مرابع طفولته في بلدة “الهامة” وأزقة دمشق القديمة موثقاً بذلك روعة الجمال وعبق التاريخ ولحظات الزمن الجميل في البيوت العتيقة وعلى ضفاف بردى وتحت ظلال الزيتون .


والمعرض رسالة عاشق لوطن حمله الفنان في ذاكرته وروحه طيلة سنوات الغربة وأضناه الشوق لتلك اللحظات المحفورة في الذاكرة . ودعوة لكل متلقٍ ليتأمل ذلك البلد الجميل ويعيش لحظات من الصفاء في ظلال الياسمين.
من اللافت في هذا المعرض ملامسته لشيء ما في نفوس كل الزوار من أتراك وأجانب من جنسيات مختلفة حيث ملامح الدهشة والأسارير المنبسطة والإرتياح الواضح, يبدو أن الرسالة النفسية التي أرسلها الفنان قد وصلت .
يُعد المعرض من الأدوات الهامة في توثيق أواصر المحبة والتعاون والاندماج بين الشعب التركي والجاليات العربية كون اللوحة لغة عالمية يفهمها الجميع. وهذه ليست المرة الأولى التي تمتد فيها أواصر الصداقة بين الجاليات العربية والأتراك فقد نفذت جمعية شام برئاسة د عمر النمر العديد من الأنشطة والمعارض بالتعاون مع إتحاد الكتاب الأتراك في اسطنبول ورئيسه السيد “محمود بيلكي” الذي رعى واهتم بنشاطات جمعية شام وحضر معظم فعالياتها , وكذلك الجمعية التركية ـ العربية ورئيسها السيد “متين توران” الذي رعى ونظم هذا المعرض وكان مع جمعية شام خطوة بخطوة منذ التاسيس وساهم في تنشيط المشهد الثقافي الفني التركي ـ العربي في اسطنبول.
معرض الفنان عمر النمر يختزل قصة طفل ولد في روابي دمشق وترعرع في بيوتها الطينية العريقة ما خلق مناخاً تعبيرياً تعدى خصوصية الذكريات إلى عمومية الأجواء والسمات وطبيعة الشام واجوائها الريفية والعمرانية بنمطيها الطيني والحجري وهذا ما خلق تواشجاً تعبيرياً بينهما اي بين حركة الطفولة ولمساتها الدافئة والعفوية وبين الطبيعة الخلابة التي نسجتها نبضات الظل والضوء وخلفيات اللوحة
ففي واحدة من اللوحات نجد الطفل( ذو الكنزة الحمراء) وهو يرنو بذهول إلى بيته المهدوم وحمامته وورود حديقته التي مزقتها قذيفة هاون .هذه اللوحة برموزها الواقعية وتنوع الوانها الحارة مع الباردة تشي بألم ممض و أمل يرتجى.


لوحة أخرى لشجرة زيتونة عتيقة موغلة في التاريخ والأرض يجلس في جوفها ذات الصبي الذي تكرر مشهده في كثير من اللوحات وبنفس قميصه الأحمر وبنطاله الأزرق , ربما هو يتأمل التاريخ والمستقبل معاً إذ تنبض روحه مع نبضات شجرة صغيرة أخرى أمامه .
كما نجد لوحتين أو ثلاث قد انفردت في طابعها عن الرسومات الأخرى لخصوصية طابعهم التجريدي والرمزي .. تداخل الأفكار والرؤى الفنية في أعماق الفنان “د.عمر النمر” ما يعتمل في دواخله من تدفق المشاعر الحسية النبيلة حيث يتلاعب بالألوان ليطيّعها ويسخّرها فيما تريد مخيلته وهي تستعيد الذكريات القديمة المعتقة في روحه . ويمكن ملاحظة الانسجام اللوني وتصالح الألوان من خلال حركة وتوزيع انواعها ودرجة حرارتها المدروسة والجريئة في آن واحد. وفي هذا ايحاء إلى مدى العشق الروحي والتماهي بين منتج اللوحة الفنان د.عمر وبين مخزونه الوطني الفني العاشق لبيئته الشامية حيث يلوذ إليها كلما توقّد الحنين في صدره الزاخر بالشوق الواله به . وقد تأملنا العديد من اللوحات الأخريات التي يحق لنا تصنيفها اسلوبياً ضمن المنهج التشكيلي الجمالي النفسي لما فيه من تأثير نفسي على بصيرة وروح المتلقي. ويبدو أن الفنان دائم البحث والإستطراد والتقصّي في ذاكرته التي تخبئ الكثير من عوالم حياتية مفعمة بحب وطنه الأم وهذا أقصى حب الإنسانية كما يراه بعض العلماء المعاصرين . بل يحيلنا إلى مقولة الرسول الكريم محمد (ص) حين مغادرته مرتع طفولته مكة مهاجرا إلى يثرب:(والله إنك لخير أرض الله ما اطيبك من بلد وأحبك إليَّ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت منك وما سكنت غيرك ).لهذا فالفنان لم يختر المهجر إلّا مكرهاً ليبحث عن حريته فوجدها أخيراً في بلد آمن ليستغل أمانه الخاص للتعبير عن مهارته الفنية الإنسانية التي هي رسائل سلام ومحبة و وفاء للشعبين السوري والتركي.
إذن فإن التشكيلي “عمر النمر” قد حط قدميه في محطة فنية جديدة تجلت فيها رؤيته واحاسيسه بشوق نابض بحب الحياة الهادئة الآمنة المستقرة التي وجدها في مدينته القديمة دمشق وابنيتها وريفها الجميل وسواقيها وأنهارها وزيتونها العريق فذاك نهر بردى والخضرة وتلك الشجرة الحانية على شباك بيته ليقطف منها التوت الشامي ‘ وذلك التنور الذي ضمه مع امه واخته والذي علقت رائحة خبزه الشهي في دهاليز ذاكرته . وهي بلا شك رسالة جمالية للمحافظة على جمال الضيعة والاماكن القديمة برونقها مثلما كانت سابقاً لأنها هويتنا الوطنية والروحية والناس كل الناس بحاجة إلى الهدوء والسلام بعد الإمعان القسري بويلات الحروب وكوارث المحن وافتقاد الأحبة. وجاء دور التمتع بجمال مدننا ومرحلة صنع السلام الروحي ولو بالرسم كعلاج نفسي كأنها موسيقى فنية تعزفها أنامل ساحرة بتعبير إبداعي يعكس رؤية ومهارة فنان متمرس في التحاور الجميل بين روحه الرومانسية وذاكرة القلب المحاطة بأغاني فيروز الشجية وهي تنتقل بألحانها كالفراشة بين شبابيك دمشق وأزهارها الندية بعطر التاريخ وامل المستقبل والخيال .لقد أراد أن يعبّر عن جوهر حنينه لأمكنة لا يكاد يفارقها الّا وتطفح في عينيه تأملات يحيلها إلى رسومات مؤثرة بالوجدان لمدى عمقها وفاعليتها لتظهر لنا قيمة الفن الحقيقي صانعاً من ذكرياته الموغلة في خياله عالماً جميلاً من خلال التنبيه إلى ملامحها القديمة والأشخاص المفعمين بالبساطة والبراءة وتبدو كأنها محاورة تسامرية بين الإنسان وماضيه وبين الطبيعة والزمن والظروف المتشابكة في رؤاه بعد 12 سنة خلت على مغادرته إياها لكنها سنوات نابضة ومواظبة من العمل المتواصل والشاق المثابر والدؤوب.


أما أسلوبه في التكوين العام لأغلب اللوحات فقد اعتمد على نظام التآلف والتناسق الروحي وتوأمة الأجزاء العمرانية والنباتية في داخل اللوحة بحيث يصنع منها لوحة متماسكة الابعاد ووحدة الموضوع ترقى إلى براعة المهندس الحاذق في شغل خريطة اللوحة ومساحتها المرئية حتى كادت الألوان المتضادة والمتنافرة بدرجة ونسبة حرارتها وبرودتها لا تشكل صراعاً حاداً أو عائقاً برزخياً بينها بل تلاطفاً وتوازناً وتوائما لونياً يدعو إلى تخطي الحدود مما يعطي إحساساً للمتلقي بتنوع الفضاءات وتلاقح الصور واللقطات الفكرية والبصرية بفعل تدرجات حركة فرشاة الفنان اللونية المستلهم من المخزون الثر لما في ذاكرة الفنان من صور لا تنسى لطالما يرحل لها بحنين التوّاق لاستعادتها في عالم آني غريب عليه رغم جماله وتآلفه معه ألا وهي مدينته الثانية “اسطنبول” التي احتضنته وأهله وأصدقاءه فكانت خير ملاذ لخير مهاجر وقد استغل الفن ليعيد لروحه التوازن العاطفي وطنياً والاندماج الروحي مع الحس الوطني كرسالة فصيحة للمجتمع للاعتزاز بملامح وطبيعة الوطن الأم .
وفي استنتاج فني سريع حول منجزه الجديد “حنين” هو توفر ذاكرته الفنية على أثر عميق تدفق على أداء مغنطة مع روح المتلقي باتصال وتناغم فني ينم عن براعة أنامله بتشكيل مفردات سورية بصرية خلق منها جمالية الأثر الواقعي المستعاد بفطنة رؤية محترفة عززها تخصص الفنان الأكاديمي “د عمر النمر” في الإرشاد النفسي وهي ليست تجريب عفوي خالص بل رسمتها خصوبة الموهبة مما يفصح عن سرديات عالقة في الروح الهائمة والسابحة في مجرّات خياله الشاعري لتفتح كوّة سراجية تنير بؤس وظلام الواقع المُر الذي خلّفته المآسي والكوارث والحروب والمؤود بإذنه تعالى إلى غير رجعة ليعم السلام وتزدهر الأوطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى